عدد المساهمات : 487 تاريخ التسجيل : 05/04/2013 العمر : 44
موضوع: الإخوان بين يوليو ويناير سؤال الدولة السبت أبريل 06, 2013 9:11 pm
2013/04/03
د. رفيق حبيب
شاركت جماعة الإخوان المسلمين في ثورتين، ثورة يوليو 1952، والتي بدأت كانقلاب عسكري، ثم تحولت إلى ثورة شعبية بحكم التأييد الشعبي لها، وثورة يناير 2011، والتي بدأت كثورة شعبية، واستمرت كذلك. واختلف دور جماعة الإخوان المسلمين في الثورتين. ففي ثورة يوليو، طلب تنظيم الضباط الأحرار بقيادة جماعة عبد الناصر، من جماعة الإخوان المسلمين، تأييد حركة الجيش. وكان جمال عبد الناصر نفسه، عضوا في الجناح العسكري لجماعة الإخوان المسلمين، وأصبح في بعد ذلك مسئولا عنه، ثم ترك الجماعة بالاتفاق معها، حتى يتمكن من تجميع ضباط من مختلف الاتجاهات، وحتى لا يكون لتنظيم الضباط الأحرار توجه إسلامي ظاهر. وأيدت جماعة الإخوان المسلمين حركة الجيش منذ اللحظة الأولى، بعد اتفاق تم قبل بداية الحركة مع جمال عبد الناصر. وكان من أهم الأدوار التي قامت بها جماعة الإخوان المسلمين، أنها مهدت سريعا لتحول الحركة إلى ثورة تلقى تأييدا شعبيا، لأنها كانت أول كيان شعبي يؤيد الثورة، ويحشد لها.
ولكن الاختلاف بين حركة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين كان حتميا في النهاية، لأن حركة الضباط الأحرار لم تكن تحمل مشروعا إسلاميا، وجماعة الإخوان المسلمين تحمل ذلك الأخير. وحركة الضباط الأحرار، حاولت أن تقنع الإخوان أن مشروعها إسلامي، ولكن هذا لم يكن حقيقيا، وهو ما تأكد في الأيام الأولى للثورة. فقد كانت حركة الضباط الأحرار، تحاول بناء الدولة القوية والجيش القوي، على النمط الحديث المستمد من الغرب. كما أن حركة الضباط الأحرار، شكلت على أساس أن لا يكون لها هوية سياسية محددة، وجمعت اتجاهات مختلفة، وكان منها بالطبع من انتمى لجماعة الإخوان المسلمين، مثل جمال عبد الناصر.
لذا لم يكن المشروع يوحد بين حركة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، ولم تكن حركة الضباط الأحرار مستعدة لفتح الباب أمام تنافس المشاريع المختلفة، ولم تكن مستعدة بالطبع لفتح الباب أمام المشروع الإسلامي فقط، بل كانت في الواقع تميل لحصر القيادة في النخبة العسكرية، لتبني المشروع الذي تحمله الحركة، وهو لم يكن مشروعا واضحا أو محددا من البداية، ولكنه تشكل عبر الوقت. والثابت الوحيد في توجه حركة الضباط الأحرار كان بناء الدولة وتحقيق التنمية، بعيدا عن الممارسة السياسية الديمقراطية، وعلى نمط الدولة الحديثة في الغرب. لذا كان توجه جمال عبد الناصر في الخمسينيات رأسماليا، ثم تحول ببساطة إلى التوجه الاشتراكي في الستينيات، لأن توجهه قام أساسا على توازنات القوى الدولية، وارتبط بالقوة التي تسانده دوليا. فتبنت دولة يوليو التوجه السياسي للقوى الدولية التي تساندها، واستمر هذا في عهد السادات، ثم مبارك، فكان الانتقال بين الرأسمالية والاشتراكية، متوقفا على القوى الدولية التي تساند دولة يوليو وحكامها.
فدولة يوليو، لم تكن مشروعا للانفصال عن النموذج الغربي السياسي، ولم تكن مشروعا للتحرر الحضاري، ولم تكن مشروعا للاستقلال الكامل عن القوى الدولية، بل كانت فقط مشروعا للتحرر من الاستعمار العسكري. وبهذا لم يكن طريق دولة يوليو مناسبا أو متفقا مع طريق جماعة الإخوان المسلمين، مما جعل الصدام والخلاف حتميا. ولم يخلو عهد من عهود دولة يوليو من صدام مع جماعة الإخوان المسلمين. وكان كل عهد يبدأ بهدنة مع جماعة الإخوان المسلمين، وينتهي بالصدام معها. فبدأ جمال عبد الناصر حركته بمشاركة الإخوان، وانقلب عليهم سريعا، لأنهم في الواقع كانوا قوة موازية لحركته، وربما أكثر قوة وحضورا من حركة الضباط الأحرار. وبدأ أنور السادات عهده، بهدنة مع جماعة الإخوان المسلمين، استمرت في غالب عهده، لأنه اعتمد على إستراتيجية التوازنات السياسية أكثر من إستراتيجية الإقصاء السياسي، ولكن في النهاية اصطدم مع الجماعة لاختلاف المشاريع والتوجهات عندما اصطدم مع كل القوى الأخرى. ولم يكن عهد حسني مبارك مختلفا، فقد بدأ بهدنة مع جماعة الإخوان المسلمين، استمرت لأكثر من عقد من الزمان، ثم انقلب عليها، عندما رأى أن قوتها تتمدد على الأرض، وسوف تصبح منافسا حتميا له.
وفي جوهر هذا الصراع، كان اختلاف المشروع هو سبب الصراع المستمر والممتد. فدولة يوليو لم تكن مشروعا إسلاميا، ولا مشروعا للاستقلال الحضاري، ولم تكن إلا إعادة إنتاج محلي للدولة القومية القطرية، أي الدولة المستوردة، التي أقامها الاستعمار في مصر، كما أقامها في غالب الدول العربية والإسلامية. لذا، كان الخلاف الأبرز بين جماعة الإخوان المسلمين ودولة يوليو، عبر كل عهودها، هو الموقف الحضاري بين حركة تتبنى الاستقلال الحضاري الكامل، وبناء النهوض الحضاري الإسلامي من جانب، ودولة تتبنى التبعية الحضارية من جانب آخر حتى وإن تبنت الاستقلال السياسي مرحليا، ولم تستطع تحقيقه في النهاية، فلم تعد مشروعا للاستقلال فعلا.
وعبر كل هذا التاريخ الممتد من الصراعات والصدامات، جاءت ثورة يناير، وشاركت فيها جماعة الإخوان المسلمين، وكانت العمود الفقري، أو الجزء المنظم القوي القادر على حماية الثورة في جميع مراحلها. فكما أن جماعة الإخوان المسلمين، خاصة في مصر، تمثل العمود الفقري للمجتمع، أي النواة الصلبة له، كذلك كانت الجماعة هي النواة الصلبة للثورة الشعبية المصرية، في جميع مراحلها. ولأن الثورة المصرية كانت ثورة شعبية، لذا لم يكن لها قيادة، ولم يكن لها برنامج سياسي محدد، ولم تكن ثورة قامت بها الدولة، ولم تكن انقلابا عسكريا، مما جعل الثورة المصرية ثورة المجتمع كله لينال حريته. فهي ثورة بلا رؤية سياسية محددة، تضع القواعد الأساسية للحرية، وتفتح الطريق أمام تشكل دولة جديدة، ونظام سياسي جديد، حسب الخيارات الشعبية. فثورة يناير تعد ثورة لتحرير الإرادة الشعبية الحرة لتصبح مصدرا للسلطات، مما يمكن المجتمع من تحقيق المستقبل الذي يريده من خلال خياراته الحرة.
هنا تغير الصراع، وبدأت مرحلة الصراع المفتوح، أي الصراع الذي لا تحكمه قواعد محددة، أو مسار محدد، فهو صراع بين مكونات الماضي وميراثه، وفي نفس الوقت هو صراع بين كل مكونات الحاضر، وأيضا هو صراع حول المستقبل.
بين يوليو ويناير:
ظل الصدام مستمرا بعد ثورة يوليو، بين النواة الصلبة للدولة، والنواة الصلبة للمجتمع، أي بين القوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين. وإن كان هذا الصراع ظهر للسطح في مرات وتوارى مرات أخرى، ولكنه كان الصراع الأهم. فالنواة الصلبة للدولة مثلت في الواقع المالك الحقيقي لها، وأصبحت الدولة والنظام السياسي مستندا إلى القوات المسلحة نظريا وعمليا، وأصبحت النواة الصلبة للدولة، هي التي تحمي الدولة وتحمي النظام، وهي التي خرج منها النظام، ويأتي منها رأس النظام. وكانت مشكلة النواة الصلبة للدولة، في وجود النواة ذاتها للمجتمع، تشكل قوة موازية لها، ولها حضور اجتماعي. وكانت مشكلة دولة يوليو أساسا، في وجود مجتمع قوي، يمكن أن يقبل سياسات الدولة أو يرفضها، وكان وجود عمود فقري للمجتمع، ، يمثل تهديدا مباشرا لهيمنة دولة يوليو على المجتمع المصري. فقد كانت استراتيجية دولة يوليو تعتمد على الهيمنة الكاملة على المجتمع، وعلى إضعاف المجتمع في مقابل تقوية الدولة، حتى لا يكون هناك أي توازن بين قوة الدولة وقوة المجتمع، وحتى لا يستطيع المجتمع الوقوف في وجه الدولة، أو في وجه رأس النظام. ولأن دولة يوليو أسست للهيمنة والسيطرة الكاملة، باعتبارها منهجا للسلطة. لذا كان وجود جماعة الإخوان المسلمين يمثل تحديا مباشرا لسلطة وهيمنة الدولة لأن الجماعة تمثل نواة صلبة قادرة على تقوية المجتمع، وتحريكه.
وبالفعل أثبتت التجربة التاريخية أن دولة يوليو استطاعت تفكيك كل مؤسسات ومكونات المجتمع، واستطاعت إضعاف كل قدرات المجتمع، وتعطيل العمل الأهلي، والقدرات المحلية للمجتمعات، وتعطيل كل قدرة للمجتمع على بناء نفسه، ولكنها فشلت في تفكيك جماعة الإخوان المسلمين، فظلت الجماعة، تمثل نواة صلبة عصية على أي تفكيك، حتى في أحلك المراحل.
ولم يكن هذا مصادفة، فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين تدرك أن قوتها تكمن في أنها تحمل فكرة، ولها تنظيم. وكانت تدرك أن التنظيم القوي هو القادر على حماية المشروع والحفاظ على الفكرة، والعمل على إبقائها حية. فجماعة الإخوان لم تكن مجرد فكرة، تظهر وتختفي، بل كانت فكرة يحملها تنظيم، فيحافظ التنظيم على بقاء الفكرة. وكانت الجماعة تدرك أن التنظيم القوي، هو القادر على البقاء، رغم كل التحديات التي يواجها. ولهذا ركزت جماعة الإخوان المسلمين على التنظيم القوي المترابط والقادر على الاستمرار والبقاء ومواجهة التحديات، عبر كل الظروف. بهذا، أصبحت جماعة الإخوان المسلمين بالفعل، نواة صلبة في المجتمع، لم يستطع أحد تفكيكها، حتى إذا جاءت ثورة يناير، وخرجت النواة الصلبة إلى الشارع، تشارك في الثورة وتحمي الثورة، وتلتقي مرة أخرى وجها لوجه مع النواة الصلبة للدولة، وفي الشارع، بعد اللقاء الأول، في الأيام الأولى لثورة يوليو، عندما خرجت قوات الجيش إلى الشارع، وخرجت جماعة الإخوان المسلمين إلى الشارع أيضا لتحمي حركة الجيش، وفي هذه المرة، خرجت القوات المسلحة لتحمي حركة الشعب، بمن فيه جماعة الإخوان المسلمين.
ففي المرة الأولى، كانت الحركة للجيش والتأييد من الشعب، وفي المرة الثانية، أي في ثورة يناير، كانت الحركة للشعب، والتأييد من الجيش. وفي المرة الأولى، خرجت جماعة الإخوان لتأييد حركة الجيش، وفي المرة الثانية خرج الجيش لتأييد الشعب، ومنه جماعة الإخوان المسلمين. وبهذا اكتملت الدائرة، وأصبحنا أمام مرحلة جديدة بالفعل، فلم يكن من الممكن أن تنتهي المرحلة الأولى، بغير هذا اللقاء الرمزي الذي جمع النواة الصلبة للدولة، والنواة الصلبة للمجتمع، مع تغير الأدوار، فأصبح الفاعل حاميا، وأصبح الحامي فاعلا، فبدأت مرحلة جديدة، وصفحة جديدة هي صفحة الصراع بين دولة يوليو ودولة يناير.
الدولتان وجها لوجه:
في لحظة سقوط رأس النظام، وانتصار ثورة يناير في الجولة الأولى الجوهرية، أصبحت ثورة يناير وجها لوجه مع دولة يوليو، وأصبحت دولة يناير المفترضة، والتي لم تتشكل بعد، وجها لوجه أمام دولة يوليو. وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين النواة الصلبة للمجتمع، وجها لوجه مع القوات المسلحة، النواة الصلبة لدولة يوليو، وأصبح السؤال المحوري الخفي، والذي لا يظهر على السطح، ولكنه يحرك كل الأحداث هو: هل تغير ثورة يناير دولة يوليو، وهل تبني دولة يناير، وهل تكون جماعة الإخوان المسلمين هي النواة الصلبة لمشروع بناء دولة يناير؟
ظل هذا السؤال هو الذي يحرك كل الأحداث، فهناك خوف من كل مناصري دولة يوليو من بناء دولة يناير وهناك خوف مضاعف من كل مناصري دولة يوليو من أن تكون جماعة الإخوان المسلمين، هي التي سوف تبني دولة يناير، أو تكون العمود الفقري لمشروع بناء دولة يناير. وإذا كانت الثورة قامت في وجه نظام هو ابن لدولة يوليو، وقامت لتغير أوضاع هي نتاج دولة يوليو، فإن أي دولة تبنيها ثورة يناير، ستكون بالضرورة نموذجا مختلفا ومغايرا لدولة يوليو. هنا ظهرت الأزمة، فليس كل من كان مع الثورة، كان ضد دولة يوليو، وليس كل من كان ضد نظام مبارك، كان بالضرورة ضد دولة يوليو، وليس كل من حمى الثورة، كان ضد دولة يوليو. وبالتأكيد، لم تكن القوات المسلحة، والتي حمت الثورة، ضد دولة يوليو، بل هي في الواقع العملي، النواة الصلبة لدولة يوليو، وأكثر ما يهمها، هو الحفاظ على دولة يوليو. وفي نفس الوقت، فإن قيادات القوات المسلحة، مثل قيادات دولة يوليو، مثل المناصرين لدولة يوليو، يدركون أن جماعة الإخوان المسلمين تمثل نقيض دولة يوليو.
وما جعل السؤال ليس صعبا فقط، ولكن بلا إجابة، أن ثورة يناير ليست حركة سياسية لها مشروعها، مما يعني أن ما تنتجه الثورة من دولة جديدة، أمر مجهول، فدولة يناير هي المجهول الذي يخشاه البعض، ويقبل عليه البعض الآخر. ومن يخشاه لا يعرف على وجه التحديد شكله وطبيعته، ومن يقبل عليه ويقبله، لا يعرف على وجه التحديد شكله وطبيعته النهائية، أو مراحل تشكله وصوره المختلفة. فدولة يناير هي مجهول لم يضع أحد له مسارا محددا، أو مراحل محددة، فهي دولة تتشكل حسب التفاعل الحر، والاختيارات الشعبية المتتالية، فهي مجهول يتشكل بحكم التفاعل والصراعات والمواقف والتحديات، وليس طبقا لكتالوج معد سلفا.
وجماعة الإخوان المسلمين لم تطرح في مختلف برامجها رؤية محددة لدولة مختلفة عن الدولة القائمة، بل طرحت فقط المرجعية الإسلامية، كهوية للدولة والمجتمع، وطرحت تصورا لدولة فاعلة تقوم بدورها في خدمة المجتمع، وتحقق التنمية والنهوض، ولهذا لم تطرح جماعة الإخوان المسلمين مشروع دولة في وجه الدولة القائمة، بل طرحت مشروعا للدولة القائمة. ويبقى السؤال: هل هذا المشروع يغير من طبيعة الدولة لدرجة أنه يبني بالفعل دولة جديدة؟
والإجابة على ذلك تكمن في طبيعة ثورة يناير، فهي ثورة شعبية سوف تبني المستقبل طبقا للخيارات الشعبية، مما يعني أن مصير الدولة تحدده الخيارات الشعبية، وجماعة الإخوان مثل غيرها، تطرح تصوراتها، وتحقق ما يقبله الناس ويرضون عنه. إذن ما يتحقق في النهاية، ليس هو خيار جماعة الإخوان المسلمين فحسب، ولا هو خيار القوى الإسلامية فقط، بل هو نتيجة التفاعل الحر بين كل التيارات السياسية وعامة الناس، مما يؤدي إلى تحقق بعض تصورات القوى السياسية، والتي تحوز على أكبر درجة من القبول والرضا من عامة الناس.
ولكن هذا لا ينفي تلك المفارقة التاريخية. فدولة يوليو، والتي بدأت من خلال تحالف بين حركة الضباط الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، ثم تحولت إلى الخصم العنيد لجماعة الإخوان المسلمين، أصبحت بعد الانتخابات الرئاسية تحت قيادة أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين، ورئيس حزب الحرية والعدالة، أول حزب تؤسسه جماعة الإخوان المسلمين، فأصبحت قيادة دولة يوليو لواحد من خصوم دولة يوليو.
من في المعارضة:
بعد انتخاب أول رئيس مدني للدولة المصرية، باتت القوى التي تعارض التيار الإسلامي، والقوى التي تعارض الثورة، في تحالف قوي ضد أول رئيس منتخب، وكأن القوى السياسية غير الإسلامية، بما فيها قوى النظام السابق، تمثل المعارضة في وجه حزب الحرية والعدالة، وجماعة الإخوان المسلمين، باعتبارهما الحزب الحاكم. ولكن الصورة الحقيقية على أرض الواقع، لم تكن كذلك، لأن دولة يوليو، ظلت هي القوة الحاكمة على الأرض، وعلى الدولة، وأصبحت جماعة الإخوان المسلمين، ومعها حزب الحرية والعدالة، والرئيس المنتخب هم من يمثلون المعارضة. فلأول مرة، يبدو الرئيس المنتخب قائدا وزعيما للمعارضة في وجه الدولة القائمة التي تتحكم في مقدرات البلاد.
فثورة يناير لم تسقط الدولة، وبالتالي لم تسقط دولة يوليو، أي أنها لم تسقط النظام، بل أسقطت رأس النظام فقط، مما فتح الباب أمام التحدي الحقيقي بين ثورة يناير ودولة يوليو، وظلت جماعة الإخوان المسلمين في صف ثورة يناير، وفي مواجهة دولة يوليو، حتى بعد انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا لدولة يوليو.
وكل المواجهات التي حدثت قبل وبعد انتخاب الرئيس كانت في الواقع بين دولة يوليو وثورة يناير، وكانت في العمق بين دولة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين، وكانت في حقيقتها المستقبلية صراعا بين دولة يوليو، ودولة يناير التي لم تتشكل بعد.
فتدخل قيادات المجلس العسكري في مرحلة إدارته لشئون البلاد في العملية السياسية، كان حفاظا على دولة يوليو، خاصة من خصمها التاريخي، جماعة الإخوان المسلمين. وكل تدخلات القضاء في العمل السياسي، سواء بحل اللجنة التأسيسية، ثم حل مجلس الشعب، لم يكن إلا دفاعا عن دولة يوليو، ومنعا لبناء دولة يناير، واستمرارا للخصومة بين دولة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين، وهي خصومة لا ترتبط فقط بجماعة الإخوان المسلمين، لأنها خصومة بين دولة يوليو وكل القوى الإسلامية، ولكن لأن جماعة الإخوان المسلمين تمثل النواة الصلبة للمجتمع، وبالتالي للقوى الإسلامية، لذا أصبحت المواجهة بين دولة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين في صدارة المشهد، كما كانت عبر كل عمر دولة يوليو.
الإخوان ودولة يوليو:
لكن جماعة الإخوان المسلمين اتبعت استراتيجية مختلفة تقوم على المصالحة مع دولة يوليو، ومع النواة الصلبة لدولة يوليو، أي القوات المسلحة، وتجاوز كل التاريخ الماضي، والمضي قدما في بناء النظام السياسي الجديد. وتصورت جماعة الإخوان المسلمين أن تجاوز كل حسابات الماضي ضرورة، والتغاضي عن أي تصفية لحسابات الماضي حتمي، والخروج من الماضي إلى المستقبل ضرورة أيضا، مما يعني أن الجماعة لم تخاصم دولة يوليو، بل هي في الحقيقة لم تخاصم دولة يوليو، حتى في كل عهودها، وافترضت أنها تخاصم الطبقة الحاكمة المستبدة، وتخاصم الاستبداد والفساد، وتعمل من أجل التحرير السياسي الكامل، وتحرير الإرادة الشعبية الحرة.
وبنت جماعة الإخوان المسلمين استراتيجيتها على أن الدولة ملك المجتمع، وليست جزءا من النظام الحاكم، وأن الدولة عندما تتخلص من النظام المستبد الفاسد، تبقى دولة كل المجتمع، وأنه لا معنى للخصومة مع الدولة. وبسبب هذه الاستراتيجية، كانت جماعة الإخوان المسلمين، بعد سقوط رأس النظام، من القوى التي تريد الحفاظ على الدولة، وتعادي أي محاولة لإسقاطها، ورأتها مسألة استراتيجية لا تنازل عنها، وكأن جماعة الإخوان المسلمين، عملت على الحفاظ على خصمها التاريخي، حتى لا يسقط أو ينهار، لأنها كانت تتصور أن الدولة في النهاية هي منتج للنظام السياسي، فإذا كان النظام السياسي ديمقراطي، وقائم على الإرادة الشعبية الحرة، فالدولة سوف تكون نتاجا لخيارات الشعب الحرة، ولن تكون دولة استبداد وفساد مما يعني أن التخلص من الطبقة السياسية الفاسدة والمستبدة وليس التخلص من الدولة هو هدف الثورة من في وجهة نظر الإخوان. ورغم هذا الموقف الإيجابي من دولة يوليو، إلا أن الصراع بين دولة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين ظل مستمرا حتى بعد انتخاب أول رئيس مدني من جماعة الإخوان المسلمين.
جوهر المشكلة:
الحقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين، عبر كل تصوراتها السياسية، قبل وبعد الثورة، تعاملت مع الدولة، باعتبارها جهازا إداريا، ومؤسسة ملك المجتمع، واعتبرت أن القوات المسلحة، هي مؤسسة الوطنية المصرية، وأن القضاء هو مؤسسة مصرية عريقة، وهكذا. وهي بهذا تصورت الدولة، باعتبارها أداة الإدارة والتنظيم والتنمية والتقدم، أي أنها أداة، واعتبرت أن الدولة ليست مشروعا سياسيا، وأن الطبقة السياسية هي التي تحمل المشروع السياسي، أي مشروع الاستبداد والفساد، وأن الدولة ليست جزءا من هذا المشروع، حتى وإن وظفت بكاملها في داخل مشروع الاستبداد والفساد. واعتبرت جماعة الإخوان المسلمين أن سياسات الالتحاق بالغرب والتبعية، والعلمنة والتغريب، والتحالف مع الاحتلال الإسرائيلي، هي كلها من سياسات الطبقة الحاكمة، وليست جزءا من طبيعة الدولة، وأن نهاية الطبقة الحاكمة، وانتخاب قيادات سياسية بإرادة شعبية حرة، كفيل بتنفيذ السياسات التي يختارها عامة الناس بإرادتهم السياسية الحرة. لهذا لم تعتبر جماعة الإخوان المسلمين نفسها في خصومة مع الدولة، بل اعتبرت أن خصومتها هي مع الطبقة السياسية المستبدة والفاسدة.
ولكن الطرف الآخر، سواءً في القوى السياسية العلمانية، أو قوى النظام السابق، أو الدولة العميقة التي حكمت قبل وبعد الثورة، كان له رؤية أخرى تقوم أساسا على أن الدولة اكتسبت طبيعتها ومحتواها وهويتها من النظام السياسي القائم قبل الثورة، وأصبحت تحمل المشروع السياسي للطبقة الحاكمة منذ ثورة يوليو، وأصبحت الدولة بهذا لها طبيعة محددة وسياسات وتوجهات محددة، وأن أي تغيير في طبيعة الدولة أو توجهاتها أو سياساتها هو تغيير لدولة يوليو.
وإذا كانت بعض قوى النظام السابق ظلت تحارب الثورة، حتى تعيد الاستبداد والفساد، فإن قوى أخرى من أنصار النظام السابق، أو من القوى السياسية العلمانية التي تحالفت مع أنصار النظام السابق لم تكن تريد إعادة إنتاج الاستبداد والفساد، بل كانت تريد الحفاظ على الدولة القائمة، دولة يوليو، بكل سياساتها وتوجهاتها. ولأن الثورة قامت ضد الاستبداد والفساد، ولم يكن لها رؤية سياسية محددة، لذا أصبح من الممكن اعتبار أن الحفاظ على طبيعة الدولة القائمة، وسياساتها وتوجهاتها، لا يعادي الثورة، بل يمثل مشروعا سياسيا للحفاظ على دولة يوليو. فهل قامت ثورة يناير لتخلص دولة يوليو من الاستبداد والفساد، أم قامت من أجل التخلص من دولة يوليو نفسها؟
الإجابة السهلة:
أسهل إجابة، تحملها جماعة الإخوان المسلمين، أن ثورة يناير جاءت لتحرر الإرادة الشعبية، وهي بالفعل قد حررتها، وأكثر من هذا، أن الثورة الشعبية التي لا تحمل رؤية سياسية سوف تبني نظاما سياسيا جديدا، ومستقبلا جديدا طبقا لهذه الإرادة. وكأن جماعة الإخوان المسلمين تحيل الجواب إلى الإرادة الشعبية الحرة، وتقول إنها لا تحمل مشروع دولة سوف تفرضه على الجميع، ولكنها تعمل من خلال الخيارات الشعبية الحرة لتأسيس المستقبل السياسي الجديد، وأن الدولة القائمة، سوف تظل قائمة، ولن تسقط، ولكن خيارات الدولة سوف تصبح هي خيارات عامة الناس حتى تعبر الدولة عن الإرادة الشعبية الحرة.
إذن تبديل دولة يوليو بدولة يناير، هو قرار الإرادة الشعبية الحرة، وهذا ما تخشاه قوى دولة يوليو في الواقع، وتتصور أن خيارات هذه الإرادة، يمكن أن تغير دولة يوليو، وتعتبر أن جماعة الإخوان المسلمين، ولأنها النواة الصلبة للمجتمع، يمكنها حشد الرأي العام لتغيير سياسات وتوجهات وخيارات دولة يوليو، وبهذا تبقى الدولة، ولكنها لن تعود دولة يوليو، بل دولة يناير الجديدة.
فإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين تبني رؤيتها على أهمية الحفاظ على الدولة، وكانت كل خياراتها بعد الثورة قائمة على الحفاظ على الدولة باعتبارها من مقدرات البلاد، فإن جماعة الإخوان المسلمين، فصلت ضمنا بين سياسات وتوجهات وخيارات النظام السابق والدولة، واعتبرت الدولة أداة محايدة لا ترتبط بسياسات وتوجهات وخيارات محددة، وأن التوجهات العامة هي خيار الإرادة الشعبية الحرة، وبالتالي يكون على الدولة تبني الخيارات الشعبية من خلال السلطة المنتخبة، والتي تحمل الخيارات الشعبية، وتحولها إلى توجهات وسياسات وخيارات للدولة، وبهذا تتبنى الدولة ما يختاره عامة الناس من خلال السلطات المنتخبة من الشعب، وهذا بالضبط ما تخشى منه القوى المناصرة لدولة يوليو.
مرة أخرى وجها لوجه:
حتى بعد - بل بسبب- انتخاب أول رئيس مدني من جماعة الإخوان المسلمين، عادت المواجهة بين دولة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين لتدشن المرحلة الأخيرة من تلك المواجهة، وتصل إلى مرحلة الحسم، أي المعركة الأخيرة. ولم يكن صعبا على دولة يوليو أن تظهر كما كانت قبل الثورة، وإن تغير شكل الظهور. فالدولة العميقة، سيطرت على كل مفاصل الدولة من خلال شبكة للقيادات العليا والوسيطة والدنيا داخل الدولة، وتحركت أجهزة الدولة المركزية في وجه السلطة المنتخبة، خاصة القوات المسلحة والقضاء والشرطة. وعندما خرجت القوات المسلحة من اللعبة السياسية حفاظا على نفسها، ولأنها النواة الصلبة للدولة، ظلت المؤسسات الأخرى تدير المعركة مع السلطة المنتخبة.
ثم أقامت قوى النظام السابق تحالفا واسعا مع أغلب القوى السياسية غير الإسلامية، سواءً التي أيدت الثورة فعليا، أو التي أيدتها ظاهريا لتبني بذلك تحالف دولة يوليو، وهو التحالف الذي يعمل على هزيمة القوى الإسلامية، والحفاظ على الطابع القومي القطري العلماني للدولة، والحفاظ على سياسات الدولة وتحالفاتها الغربية، وموقفها المهادن للاحتلال الإسرائيلي. فتلك السياسات، هي التي شكلت الدولة القومية القطرية العلمانية القائمة على إعادة إنتاج النموذج السياسي للدولة في الغرب، وهي دولة يوليو. ورغم التباين بين سياسات دولة يوليو عبر العهود المختلفة، إلا أنها ظلت دولة قومية قطرية منفصلة عن الموروث الحضاري الإسلامي، ومرتبطة بالعلمانية السياسية، وإن لم تعاد الدين، ولكن استغلته أغلب الوقت، وبذلك أصبحنا أمام تحالف سياسي، علماني المضمون، يواجه التيار الإسلامي، ولكنه لا يواجه القوى الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، من خلال التنافس السياسي الحر، ولكن من خلال السيطرة على الدولة، والسيطرة على المال والاقتصاد والإعلام، وهي نفس أدوات النظام السابق، مما يعني أن أول مشكلة تواجهها الثورة في الواقع هي أن النظام السابق، رغم سقوط رأسه، ظل يملك كل أدوات السيطرة التي كانت بيده قبل الثورة، وأصبحت معركة إسقاط أدوات النظام السابق، وفك سيطرته على الدولة، وتغييب الدولة العميقة، من أهم معارك الثورة.
ولكن المشكلة أن كل القوى السياسية أصبحت خارج تلك المعركة، بل وتقف مع خصوم الثورة لتحمي الدولة القائمة التي كرست النزعة القومية العلمانية مما يعني أن معركة تفكيك شبكة النظام السابق، وتفكيك الدولة العميقة، واستعادة الدولة الرسمية، لم تعد معركة أي قوى، إلا القوى الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين وهو ما يعني ضمنا أن قوى الثورة انقسمت فأصبحت هناك قوى تدافع عن بقاء دولة يوليو، حتى وإن استمرت تحت سيطرة الدولة العميقة، أي تحت سيطرة دولة خفية، وليست تحت قيادة السلطة المنتخبة؛ وقوى أخرى تدافع عن تحرير الدولة من بقايا النظام السابق، وتفكيك الدولة العميقة، ووضع الدولة تحت قيادة السلطة المنتخبة حتى تصبح خاضعة لخيارات عامة الناس.
وأصبحنا بهذا أمام ثورة وثورة مضادة، وكل طرف يمكن أن يعتبر نفسه مع الثورة، وليس مع الثورة المضادة، ولكن التاريخ سيقول إن المربع الذي تقف فيه قوى النظام السابق، هو الثورة المضادة، وعليه يكون المربع الآخر هو مربع الثورة. وهكذا أصبحت جماعة الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية، وبعض القوى الأخرى القليلة في مربع الثورة، وأصبحت أغلب القوى العلمانية وغير الإسلامية وقوى النظام السابق في مربع الثورة المضادة، وبدأت مرحلة الصراع العميق بين دولة يوليو ودولة يناير.
الدولة في قلب الصراع:
في مرحلة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة حاولت بعض القوى العلمانية السيطرة على مسار الثورة من خلال التظاهر ضد المجلس العسكري، وكانت في الواقع تزيد الدولة ضعفا، وتساهم في إسقاط البقية الباقية من هيبة الدولة. وكانت جماعة الإخوان المسلمين ترفض أي شكل من أشكال إسقاط الدولة، أو إسقاط هيبة الدولة، لأنها كانت تدرك أن سقوط الدولة، يعرقل مسار الثورة، وأن إصلاح وتغيير الدولة هو المنهج المناسب حتى لا تعم الفوضى. وكانت قوى النظام السابق تحول كل تظاهر إلى تظاهر عنيف وفوضى، لأنها كانت ترى أن الفوضىهي سبيلها الوحيد لتعود لصدارة المشهد السياسي، وتتحكم في مسار الثورة.
وبعد انتخاب أول رئيس مدني من جماعة الإخوان المسلمين، تحالفت قوى النظام السابق مع العديد من القوى العلمانية، ووظفت العديد من الحركات الشبابية، سواء الثورية أو الرياضية لتنشر حالة من الفوضى، وتقود ثورة مضادة لتسقط ثورة يناير، وتعييد إحياء ثورة يوليو على حسابها دفاعا وحفاظا على دولة يوليو، والتي تسيطر عليها قوى النظام السابق. ووظفت قوى النظام السابق نخبة الدولة العميقة لتقود تمرد عملي على القيادة المنتخبة، وتم توظيف أجهزة الدولة ووسائل إعلام لتقود حربا لا هوادة فيها ضد كل سلطة منتخبة مادامت القوى الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، هي التي تتصدر المشهد السياسي.
ولأن الصراع بين دولة يوليو ودولة يناير الوليدة، والصراع بين القوى الإسلامية وقوى النظام السابق والقوى العلمانية، والصراع بين التحالف العلماني مع قوى النظام السابق وجماعة الإخوان المسلمين، يدور كله حول الدولة؛ لذا أصبحت الدولة في مرمى هذه الصراعات جميعا، وأصبحت هوية وطبيعة وسياسات وتوجهات الدولة، هي جوهر الصراع. مما جعل الدولة تزداد ضعفا، وتفقد سيطرتها على المجال العام وأصبحنا أمام نتيجة مزدوجة الأثر فضعف الدولة وفقدانها للسيطرة وسقوط هيبتها يساعد على إفشال أي عملية تغيير وإصلاح، ويعرقل عمل القيادات الإسلامية المنتخبة، ويدخل ضمن سيناريو إفشال الحركة الإسلامية. وفي نفس الوقت، فإن عملية إضعاف الدولة، تضعف دولة يوليو، وتفكك أوصالها، وتجعلها محلا لرفض شعبي واسع مما جعل إفشال جماعة الإخوان المسلمين يؤدي أيضا إلى إفشال دولة يوليو.
وتلك هي المفارقة التاريخية التي لا يستطيع أحد تجاوزها، وهي نفس المفارقة التاريخية التي ظهرت في كل مواقف جماعة الإخوان المسلمين، والتي أدركت أن إضعاف دولة يوليو يؤدي إلى إضعاف أي سلطة منتخبة، وإن إسقاط الدولة سيؤدي بالضرورة إلى إسقاط أي سلطة منتخبة، فلا معنى لأي سلطة منتخبة من دون دولة.
مصير الإخوان ودولة يوليو:
هذا ما جعل الأمور أكثر تعقيدا مما يظهر على السطح، لأن حركة الثورة المضادة تضرب الدولة والإخوان معا، رغم أن حركة الثورة المضادة تهدف إلى الحفاظ على دولة يوليو، ومنع جماعة الإخوان المسلمين من تغيير طبيعة الدولة القائمة. وجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة يدركان أنه لا تغيير أو إصلاح إلا من خلال الدولة حتى وإن كانت دولة يوليو التي تناصب الجماعة العداء.
ولم يعد من الممكن التخلص من السلطة المنتخبة بدون هدم البقية الباقية من الدولة، خاصة أن دولة يوليو وصلت إلى أضعف مرحلة لها قبل الثورة، وبعد الثورة أصبحت الدولة في مواجهة حالة احتجاج واسعة تقضي على البقية الباقية من وجودها العملي والرمزي.
ولأن جماعة الإخوان المسلمين لا تتبنى نظرية هدم الدولة وبناء دولة جديدة بالكامل، ولا تتبنى أي نظرية للتغيير الكلي والفجائي للدولة والسياسات العامة، لذا فإن الجماعة تتبع منهج التغيير والإصلاح المتدرج حسب الظروف والاعتبارات العملية مما يعني أن جماعة الإخوان لا تتبنى فكرة هدم دولة يوليو بالكامل، ولا تتبنى فكرة الانتقام من دولة يوليو، بل تتبنى منهج تحرير الإرادة الشعبية حتى تتشكل طبيعة وتوجهات الدولة طبقا للخيارات الشعبية.
ومع الوقت، تصبح جماعة الإخوان المسلمين والقوى الإسلامية الأخرى هي التي تحافظ على الدولة، في حين أن القوى العلمانية وقوى النظام السابق وشبكة الدولة العميقة ووسائل الإعلام وتحالفات المال هي التي تسقط الدولة التي من المفترض أنها تريد الحفاظ عليها بدون تغيير. معنى هذا، أن القوى التي تريد الحفاظ على دولة يوليو، وتمنع قيام دولة يناير، تندفع في النهاية لإسقاط الدولة، وهي في الواقع تسقط دولة يوليو. والقوى التي تريد بناء دولة يناير تحافظ على دولة يوليو، لأن بغير وجود دولة يوليو لن تبنى دولة يناير. ويصبح من يريد المحافظة على الدولة القائمة يسقطها، ومن يريد بناء الدولة الجديدة يحافظ على الدولة القائمة. ولهذا يتغير المشهد تدريجيا لصالح القوى التي تريد بناء دولة يناير، لأن الإسقاط الكامل للدولة، ينهي الجميع، ويقضي على الدولة والمجتمع، وقوى النظام السابق وحلفاؤها، يدركون أن الإسقاط الكامل للدولة يغرق السفينة بكل من فيها، مما يعني أن عملية إسقاط الدولة لإغراق القوى الإسلامية تتبع سياسة حافة الهاوية، حيث تدفع قوى النظام السابق والجميع إلى حافة الهاوية، متوقعة أن تستسلم القوى الإسلامية، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تسقط الدولة. ولكن جماعة الإخوان المسلمين، تتبع منهجا يقوم على التقدم إلى الأمام وعدم التراجع، ويقوم فقط على التهدئة والتصعيد دون تراجع، لأن الجماعة تعلم أنها إذا تراجعت أمام دولة يوليو ستكون نهايتها هذه المرة.
لذا، فإن الجماعة تمتص سياسة حافة الهاوية، مما يمنع نجاح سيناريو الفوضى، وسياسة حافة الهاوية من قبل القوى العلمانية وقوى النظام السابق. ويبقى الخطر الحقيقي حال إذا تمادى طرف وأسقط الدولة فعلا، وأغرق السفينة بكل من فيها، ولا يستطيع أحد تحقيق ذلك إلا في غيبة الرأي العام، لأن إسقاط الدولة يعني إسقاط المجتمع أيضا.
خاتمة المعركة:
كل طرف في المعركة لديه مصادر قوته، وجماعة الإخوان المسلمين تعتمد على التنظيم، الذي لا يمكن استنزافه، بعدما خاض العديد من المعارك وبقى مستمرا، وتعتمد الجماعة أيضا على رصيدها الشعبي، والذي يحاول استنزافه تحالف القوى العلمانية، وقوى النظام السابق. الذي يستند أساسا على قدراته المالية والاقتصادية والإعلامية. وحرب الاستنزاف هذه في كل الأحوال، تستنزف الطرفين، حتى يدرك طرف أنه خسر بأكثر مما ينبغي، ويدرك أن الطرف الآخر قادر على الاستمرار.
وفي المعركة بين الإخوان ودولة يوليو، فمن الواضح أن الأولى لن تتراجع ولن تتهور، ولن تدخل في حرب مفتوحة، بل سوف تستمر في التقدم والبناء، ومقاومة محاولات إسقاط سلطتها المنتخبة. وتراهن الجماعة على تعبئة الرأي العام، حتى تكشف مخططات النظام السابق، وتحرم تحالف النظام السابق من التأثير على الرأي العام. وتتعرض جماعة الإخوان المسلمين إلى استنزاف قاعدتها الشعبية، ولكنها تستعيد قدرا معتبرا منها تدريجيا. ويبدو في النهاية أن الطاقة الشعبية المتجذرة في المجتمع لا يمكن استنزافها بشكل كامل، لأنها تجدد نفسها، كما فعلت الجماعة في مراحل عدة.
لذا، فإن المواجهة الحقيقية بين دولة يوليو ودولة يناير هي معركة مستمرة يحكمها في الواقع مطالب عامة الناس، والضغوط التي يمارسونها على الدولة، وتظل جماعة الإخوان تستخدم استراتيجيتها الأكثر نجاحا بعد الثورة، وهو الدفاع عن الإرادة الشعبية الحرة، والاستجابة لها مما يجعل القوة الحقيقية التي سوف تبدل دولة يوليو بدولة يناير الجديدة هي الإرادة الشعبية الحرة، محمية بجماعة الإخوان المسلمين، وتحالف القوى الإسلامية، ضد تحالف قوى النظام السابق والقوى العلمانية.